المجهول

القصة المتوّجة بجائزة اول نوفمبر 1954 سنة 2000 من وزارة المجاهدين و المركز الوطني للدراسات والبحث في الحركة الوطنية و ثورة اول نوفمبر 1954

مرفوعة الى:

صديق الجزائر ، الصحفي " روبير بارا " تقديرا وإمتنانا…

و

صاحب " معركة باريــس " " جون لوك إينودي " احتراما و عرفانا…

"جزائريـــة "

" لقد مر الزمن لكن الدرامـا الجزائرية ستبقى في الذاكـرة مثل حـرق متعدد الأشكـال "

                                                                       دونيز بارا

1

" أليس هذا البلد رائعا يا حبيبتي !".

في ذلك الإرتفاع الشامخ الذي ركّع لأنظارهما بانوراما مدينة تنام عند أقدام البحر كانا واقفين…

كان يقف كالطود يعانق بصره المدينة التي أعطاها من نفسه ومن فكره ومن جماله صحفي شاعر في سريرته، مكابر في حزنه، رصين في فرحته.

إنساني…إنساني حتى النخاع…

وكانت بجانبه أنيقة ، مساندة ، معاضدة وقد تشرّبت أفكاره وآمنت به وأحبته…أحبته حتى النخاع…

عصفوران حطّا على أحد الأفنان …

عصفوران كانا يتناجيان في لحظة حب…لحظة صفاء…لحظة انعتاق تام من كل الأشياء التي ترهق وكل العلائق التي تسقط في فخاخ اللايقين.

"السيدة الإفريقية "Notre Dame d’Afriqueعلى بعد أمتار خلفهما تحكي عبقرية الخلق عند الإنسان حين يكون الفن هوسه والمعمار هوايته.

رائعة في انتصابها، في هندستها، مغلقة على آهليها وأسرارها وكانا قد خرجا للتوّ منها.

عيون الله فوق غابات الصنوبر…عيون الله في داخلهما…

نسمات الهواء المحمّلة بروائح اليود والأعشاب البحرية أبت الاّ أن تراقص أغصان الشجر وتتغزل  في رقة بشعورهما فالكل رقص ذلك اليوم.

الجزائر كلها إندفعت في حماس وتلقائية في رقصة طوطمية شمسية…

قرص الشمس كان يرتعد خجلا فوق سدة البحر ويتمنى لو إستطاع رفض ذلك الإنحدار الحتمي إلى العالم الآخر. فالشمس تتمطى في أراضي الجنوب تعويضا وإشفاقا لأن الصقيع ممتد هاهنا منذ صنع الإنسان هاهناك الآلة البخارية.

والشمس أقامت واستقرت في الديار منذ عام.

التاريخ والجغرافيا اتفقا يومذاك على تحية أرض من أحشائها سينبت برعم في شكل شاعر رقيق سيصدح غدا :

"ان أوراق زيتونتي

تستحي من تراب

سقاه دمي

     جالت عيناه في المكان الذي أغرقه الغروب في سكون مهيب والذي قصده بعض من يستميتون في عشق منظر الأصيل فوق أمواج البحر. ثم سقطتا عند هذا الذي حرفته قول الشعر في المدّ والجزر. وعادتا لتمسحا عمران مدينة بدأت أضواءها تنبعث راسمة شراشف من نور ومن ألق.

” ها أنت حرّة !..وها افتتاني بك يا عروس المتوسّط!   “

وإقتربت منه…

كانت قريبة. ولكنّها اقتربت منه أكثر ، فالرجل إمّا أن تقترب منه أكثر أو تبتعد عنه أكثر والبرزخ بينهما سراب.

كانت كأنها تريد أن تتوحّد فيه أو تتوحّد معه في ذلك الجمال الصارخ لمدينة اكتملت جمالاتها. كانت تريد أن تطير حيث عينيه،أن تحلّق مع روحه، أن تشدّ فيه وتشدّه فالسحر مدوّخ في ذلك الإرتفاع، في ذلك البعد وفي ذلك الوقت.

حاصرت يدها محيط ظهره..

لا إنفصال بينهما…لا إنفصام !

أبدا لم يفصلهما شيء…

أبدا ما إنفصمت عرى الحب بينهما…

أبدا ما إستطاع أحد التفريق بينهما حتى إرادة حكام الجمهورية الرابعة والخامسة أيضا…

 وهمد في كفّها وقد سكن إلى ذلك الحضور الرقيق الذي بدّد الوحدة والوحشة منذ زمن…منذ الهزيمة التاريخية … منذ سنين المقاومة.

كانت هزيمة فرنسا أمام النازيين قد عرّفته طعم الهزيمة. وكانت أهوال المقاومة قد عرّفته مذاق الكفاح وقبله طعم الإيمان بقضيه وذل فقدان الحرية.

كان إندحار الجيش الفرنسي الذي لم يصمد إلاّ أياما أمام أبناء ” الرايخ ” قد علّمها معنى الألم ، الألم الذي يذكيه الخوف والضياع والإحساس بالعدمية.

وإلتقيا في صفوف المقاومة…(La résistance)

وتحابّا على هامش المقاومة…

تعانقت الروح مع الروح وسط الحرائق والخرابات فتبرعم الحبّ وسط حقول الرماد…

.ولم ينس ما تعلّمه منها …

ولم تنس ما تعلّمته منه…

لم ينسيا ما علّمتهما الحرب فتماسكا وتمسّكا بفلسفة لا وجودية ، لا عبثية، إنما فلسفة أخرى، القلب منبعها والعقل رافدها والجوهر فيها هو الإنسانية.

     مالت برأسها قليلا على كتفه…أحسّت بدفئه…شعرت بدفء الجزائر في قطعة من قلبه. أحد الأوتار الحساسة ظلّ ينبض فيه لها حتى بعد إستقلالها.

رغم أنه قرر أن يصمت عنها.

لمست فيه ذلك الحبّ الذي كان ينبع من دخيلته ويسيل على كلّ شيء حوله ويصعد إلى الله الذي في السماوات يستزيده حجما وعمقا ويعود ليصبّ في الداخل من جديد.

قالت له وهي تغرق في رقّته التي تمازجت مع سحر المكان :

     – بلى حبيبي  !…..خرافيّ الجمال هنا.

     – هي الجزائر خرافية الجمال دوما – قال كأنه يهمس، كأنّه يعترف، كأنّه يخشى أن يضبط متلبّسا بعشق ممنوع لكنه عشق مرغوب، عشق لا يبلى-

أضافت بصوت أرادته على نفس موجة الطبيعة التي كانت تغني حولهما ألحانها العذبة :

   – أتعلم ..لو لم تدافع عن الجزائريين الاّ من أجل حقهم الطبيعي في هذا الجمال لكفاك ذلك رسالة وواجبا وفخرا.

  – لو تعرفين كم كلّف إسترداد هذا الحق …لو تعرفين !.

   – أعرف أن النزيف كان قويّا. أعرف أن ما عشناه لا يزال حرقا مؤلما للطرفين. أعرف أن الفاتورة كانت ثقيلة. ولكن ما شاهدناه اليوم…تلك الجموع الجزائرية وهي تحتفل بذكرى استقلالها الأولى يوحي بأن الجزائريين قد استطاعوا القفز فوق الجرح وتناسي الحرق أمام عظمة النهاية . هذه النهاية التي تنبّأت بها أنت منذ البداية وحاولت أن تفتح عليها أعين أصحاب القرار عندنا ولكنّهم لم يسمعوك. ولو سمعوك لجنّبونا حربا خاسرة.

   – ذلك لأنني نزلت إلى الشعب الجزائري، لمست وجعه، ذلّه، هوانه تحت ضغط الإدارة الكلونيالية وعرفت أن هذا الشعب الذي لم تخمد ثوراته و مقاومته لنا منذ أن وطأنا أرضه سيثور من جديد ولن يوقفه أي شئ . فهذا الشعب ينحدر من أصول بربرية والتاريخ يؤكد أن البربر لم يناموا على ظلم مطلقا وأبدا لم يقبلوا بغريب في أراضيهم دون ردّه بشراسة.وأنا أُكبِر فيهم هذا .

     وصمت لحظة ثم أردف مستطردا :

     – الحقيقة هي ما كنت أقوله لك دائما:  إن هذا البلد رائع…رائع و شعبه طيّب و كريم و لكنه متمرّد .

وقالت مؤكدّة :

– أجل … اليوم عرفت كم هو متفرّد هذا الشعب حقا ، فعلا !

وصمتا.

قرص الشمس انحدر أكثر ….

حوض الجزائر نام على وقع أحداث ذلك اليوم …

وذلك اليوم لم يكن يشبه باقي  الأيّام…

الخامس من جويلية 1963..الذكرى الأولى لولادة القصائد الشمسية…المذاق الأوّل لعبير الأحلام الوردية … الشطر الأول في بيت  شعري أراد الشعب أن يغيّر له الوزن والقافية.

 الجزائر متوشّحة تحت غلائل الفرحة…

لافتات اختصرت الأفكار العظيمة: مافعله الشعب وما كان يريد أن يفعله، ما قالته النخبة وما كانت تريد قوله…

الرصاص سكت…

هل سكت؟…

الدم كف…

هل كفّ؟….

العاصفة هدأت…

هل هدأت حقا ؟…

العيون الشعبية التحفت الأمل …

الأمل التحف الصمت ، خاف النوايا الخفية.

بن بلة ربح المعركة، ألّف الحكومة.

الحكومة ركّبت أخيرا فوق الحكومة.

المخاض كان عسيرا…

الدماء سالت كثيرا…

" سبع سنين بركات !" نطق حكيمهم يحوّل الهزيمة نصرا مبينا.

من رماد الشعب نمت تتعثر في خجلها أزهار اللوتس…

من أنين الشعب أخذ يزهر في حذر الياسمين…

من دموع الشعب روّى طفل يريد أن يعيش…

الربيع ضحك أخيرا في الأرض التي وُعِد بهاونشر ظلاله وأزهاره محاولا الإقامة.

والشعب البسيط يحبّ الربيع…

كل الشعوب تحبّ الربيع….

لكن الربيع ليس لكل الشعوب.

الربيع هذا ضحك ساخرا وهو يكاد يبكي ذات يوم من سنة 1945 في" سان فرانسيسكو" وسادة العالم يردّدون في بلادة دبلوماسية وفي دبلوماسية  بليدة : " نحن شعوب الأمم المتحدة نؤكد من جديد إيماننا بالحقوق الأساسية للإنسان….وأن ندفع بالرقي الإجتماعي قدما وأن نرفع مستوى الحياة في جو من الحرية أفسح "

كذب مكشوف ؟!

سياسة ؟!. سياسة ؟!

ذرّ الرماد في العيون ؟!

ديكور للنظام العالمي الجديد؟؟؟

الربيع كان يدري لكنه رفض الكلام الى حين…

يتبع…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *