جيجل… عودة الحياة!

     اليوم هو السادس عشر من جوان…الساعة : السادسة مساء ، السنة:سنة في الحياة…الجو كأجمل ما يكون..ميناء “بوديس” مفتوح للناس و منفتح عليهم…منذ مدة لم يفتح شيء أمام الناس ..منذ مدة لم ينفتحوا على شيء في مدينة نذرتها حماقات البعض للموت فانغلق أهلها على أنفسهم يجترون ألاما لا منتهى لها و يكنسون الدماء من على عتبات بيوتهم.

     دخلت الميناء المشرع بابه الحديدي الكبير على مصراعيه ..احساس رائع بشساعة المكان .. برحابته..نسائم البحر العليلة تهب في لطف و دعة..بعض العائلات عند الطاولات تحتسي المشروبات و تتحدث في بشر و حبور…بعضها  يسرح العيون في الاجواء الرحبة الهادئة.. بعضها يكاد لا يصدق أنه ههنا.. في الميناء.. أمام البحر يرتع في جو من الهدوء و الاحترام

و المرح.

     و ترقرقت الفرحة في قلبي..الهي شكرا لك على هذا الجمال..شكرا لك على هذه السكينة !

أمشي الهوينا..أمشي ..أريد أن أمشي و فقط ..أن أتامل فرح الناس بعودتهم للحياة ..أريد أن أرى الحياة تجري في عروقهم من جديد..أريد أن ألمس فرحهم و فرحي..شاخ القلب على مقعد الحزن .. ياقلب اغتسل في مياه البحر فكل شيء هنا لك ..لا أحد يخدش فرحك ..لا أحد يرصد حريتك.. لا أحد يمنعك من هذا الفضاء الشاسع حيث الله يضحك للجميع و حيث الجميع يضحكون لله.

من قال أن المدينة موحشة ..مقفرة فقد كذب !

هاهي تخرج كالعنقاء من تحت الرماد..هاهي تتجمل لهذا الانسان و تداعب انسانيته. فأينما حللت بها فولّ وجهك شطر الجمال .كعروس تستيقظ أول صباح لتجد الجميع مشرئبين الى حسنها الصارخ.

قبل أيام، من هنا افتتح الوطن موسم الاصطياف لهذه السنة..دعوة لاستضافة البعيد ..دعوة لبدء الافراح..اكتظ المكان حينهاعن بكرة أبيه..الكل حضر اكراما للذي أحضر في أعطافه الافراح.

كمياه عذبة رقراقة تتوالى الافكار في رأسي تصب عند هذه المعجزة:عودة الروح الى المدينة !

     ألتقي صدفة بامرأة لم أعد أذكر اسمها..نتبادل التحية و السؤال عن الاحوال ثم تنسحب الى جوار عائلتها تحت شمسية عند طاولة عليها أكواب مثلجات .

     على حافة الرصيف أتوقف أرقب طفلا جالسا يدلي رجليه الى البحر و قد استغرقه منظر المياه المائلة الى الخضرة  ترسم ذبذبات متتالية، منتظمة..أقترب منه أكثر..أقف على الحافة تماما .. أنظر الى تحت ..أشعر كأنه يدعوني الى القفز..اغسلني يا بحر من كل همومي..اطوني في أعماقك سمكة أو نبتة أو صدفة ..خلصني من سلسلة تعاسات طولها سبعون ذراعا ..امح عني ما لحق بالروح في سنوات الظلام..عني و عنهم فكلهم مثلي هؤلاء الذين ما أن دعوتهم حتى هرعوا اليك يبثونك أشجانهم..كلهم أغرقوا في الألم..كلهم كانوا حبيسي الليل..كلهم أمعنوا في الحزن حتى ظنوا الفجر مستحيلا.

      و تستحضر ذاكرتي ميناء المدينة القديم.كنا ونحن أطفال نتجول على طوله و نمرح و نقفز ..كنا نستمتع بمنظر زوارق الصيادين  بدبيبهم ، بحركاتهم و بلغتهم المليئة بالمفردات “الجنوية” التي لم نكن نفهمها..كان هناك مركز لرياضة الزوارق الشراعية..كانت هناك أرضية شاسعة لتعليم كرة السلة..مدرسة أعطت أبطالا في هذه اللعبة..كانت في ناحية أخرى مستودعات الشركة الوطنية للسميد و مشتقاته و تعاونية الشركة أيضا..و ليس بعيدا كان مصنع لتعليب السردين..كان يشغل المئات أغلبهم نساء و مع مصنع النسيج صنعا سوية شهرة البلدة و فتحا الكثير من البيوت.

كانت جيجل آنذاك آمنة ..كانت جيجل آنذاك ساكنة، مطمئنة ..كانت جيجل آنذاك عروس بحر زاهية .

ثم نزل الظلام.

و عدت من “الفلاش باك” باكية القلب..عدت الى حاضر ينقشع ظلامه رويدا ..رويدا..

الشمس بدأت تميل الى المغيب..الناس يتوافدون عائلات أو أفرادا..المكان هائل..المكان هادئ ..المكان جنة الله على الارض ما دامت القلوب يعمرها الأمل من جديد..يتفتح فيها الورد من جديد.

يحق للمدينة أن تحلم بغدها..يحق للمدينة و هي تتصالح مع نفسها أن تشرع أبوابها ..كل أبوابها للبشر..أن تنثر عليهم غبار الأمل ..أن تضمهم ضمة الأم الحنون من الفجر الى السحر.لا شيء ممنوع هنا الا الحقد و التفاهة و الرداءة.. ما دون ذلك حق طبيعي لكل البشر.. لهم الارض و السماء ..لهم البحر و الميناء..حقهم ..ملكهم منذ الميلاد.

كان الجيجلي دائما صديقا للبحر..مثل ذلك الصياد العجوز الذي جلس بين الصخور مستغرقا في المكان ..مستغرقا في الماضي ..يكاد لا يبين و قد تواءم مع عناصر الطبيعة حتى لكأنه جزء منها ..ذرة من ذراتها..نسمة من نسماتها.

قالت صديقتي التي التقيتها هناك صدفة مع زوجها وولدها و هي تشير بنظرها اليه:” كان يحب البحركثيرا” قلت لها :” من لا يحب البحر فهو فاسد”. ابتسمنا و نحن ننظر اليه..لا يشعر بشيء الا بذبذبات الماء تكلمه فيرد عليها بلغة حابلة بصمت يقول الكثير. حتى النسائم المحملة ببرد المساء و باليود و عطر الاعماق البحرية كانت تلامس خده و تتلاعب بخصلات شعره الابيض فلا يأبه بها.هائم في ملكوت البحر..هائم في ملكوت الرب.

كدت أبكي..كان هذا البحر له..كان له مثل هذا الميناء..كانت له المدينة كلها .ثم لم يعد له شيئا. لعل قلبه يشهق و قد شاخ في حبس الحرمان.

يالله ! طفلان على مقربة منه يعالجان بصنارة أعماق البحر عله يجود بما يجود..كأنهما يقولان للشيخ:” نحن هنا..و غدا نحن هنا..نحن الامل..نحن الامتداد..فلا تاسف على الذي مضى و غدا يوم جديد !”

ابتعدت عن هذه الزاوية و القلب مشروخ بين الفـرح و الألم يحاول أن يجد سبيله بين الذي ضاع و الذي يولد من جديد.

أسير ..أسير و العائلات تشمر الى المكان كأنهم أطلقوا سراحها للتو من سجن كبير.أسير أنشد حرية طال انتظارها..البسمات تنتثر في الفضاء الرحب..ضحكات الاطفال تصب في القلب رحيق الازهار..الصغار يجرون..يجرون هنا و هناك..يقفزون أمام أهاليهم فرحين بهذه الفسحة ، مستمتعين بشساعة الاجواء.

النساء …الهي ! نساء جيجـل الشامخات ، الشاهقات حسنا ، السامقات كرامة…كـم من الضوء و الهواء يلزمهن لترميم الشروخ التي أحدثها زمن الطاعون في أعماقهن..كم من الحرية يلزمهن ليغسلن آثار الحبس الاجباري الذي كن فيه..كم من الفرح يلزمهن ليتبدد الحزن الذي عشعش في قلوبهن .بكم رجل يجب أن يرمين الى البحر حتى يتحقق العدل..حتى تستوي الانوثة و الذكورة؟

لكن انتهى زمن التأنيث و التذكير..لم يعد هناك مجال ل”تاء الخجل” ..الكل سواء.. البحر حق طبيعي للجميع..الهواء حق الهي للجميع..الجمال حق رباني للجميع.و ليتبجح من استعصى عليه الامر بمرثية الجاهلية . فالحياة رجل و امرأة معا و ما دون ذلك فالى البحر ..الى البحر. عجلة الزمن مستحيل أن تعود الى الوراء.

     حاولت الصعود على السور العالي الذي يمتد عند مؤخرة الميناء كسور قلعة قديمة..كان ضيقا.. خفت على الصغير الذي يرافقني و يتقافز أمامي من السقوط..أحسست بالارتفاع ..اليوم كل القلوب مرتفعة..و الافكار مرتفعة..من ينخفض فليس منا..من ينخفض فليخرج من مينائنا..من مدينتنا فالانخفاض ممنوع ..هنا الارتفاع شرط أساسي للدخول..للمكوث ..هنا الشعر ..هنا الحب .. هنا الجمال..هنا الابحار على متن زورق الروح أو التحليق في جو من النور.

     و تعبّدت النفس و وصلت في صعودها الى سدرة المنتهى و صلت لله و سجدت و قد طافت بكل الميناء رقعة..رقعة حتى ثملت بشيء يجيش في الداخل جميلا..جميلا حد البكاء.و ارتمت أخيرا عروس بحر تنشر جمالها على أشعة الشمس و تدعو لخالق الجمال أن يحفظ ذلك الجمال .

 وخرجت من الميناء و الشمس تلملم أذيالها و تنحني نحو المغيب..

لم يكن الوقت كافيا لأعرج على شاطئ “الكازينو” و بعض العائلات على امتداد رماله تستمتع بسحر المساء .قيل لي أن الشاطئ ازداد روعة بعد عملية التجميل.و الشاطئ على بعد بضعة عشر مترا فقط من عملي و لم أره ! مشيت و الصغير الذي يرافقني يرمي بعلامات التعجب في كل اتجاه..قال أنه لم يلعب و يمرح مثل اليوم.ضحكت له و أنا أربت على كتفه..قلت له : “لقد علمتك الصلاة فلا تنس حين تصلي أن تدعو بالخير للذي أعطاك كل هذا الفرح”.ابتسم لي و سرنا.

     على بعد أمتار مفترق الطرق..منتصبة عنده تحفة فنية في شكل قارب تدعوه المدينة “بابا عروج” أصبح قبلة تسر الناظرين و قد أعيد ابداعه فكان آية في الجمال و النافورة عنده تدفق ماءها المبارك و الناس حولها كأنهم في طواف حول الكعبة..فلاشات الالات الفتوغرافية تشعل و تنطفئ..رب عائلة بهاتفه النقال المزود بكاميرا يأخذ أولاده في صورة تذكارية..أم في ناحية أخرى بكاميكوسكوب تصور أسرتها أمام ذلك السحر الذي يقطر من المكان تنعكس عليه أضواء الفوانيس المنصبة حديثا كأنها آلهة ضوئية تحرس المكان و زواره .

المساء…الضوء..الحركة…لغة مدينة تحيا بأهلها .فلأول مرة تحيا المدينة بأهلها..تفرح بأهلها.. يستشعر دبيب الحياة في عروق ساكنيها…فالمصطافون الذين يصنعون موسميا حركتها لم يحن وقت مجيئهم بعد و هم منتظرون على الرحب و السعة.

أخذت للصغير صورا و هو يدفق على وجهه ماء النافورة المبارك..أمام فلاش الكاميرا رفع أصبعيه في شكل حرف V..هل أراد أن يقول:مهما طال الظلام فان النور سينتصر؟ ..ربما..

أمسكته من يده و سرنا باتجاه البيت الذي لا يبعد كثيرا عن المكان…مر بنا في الطريق قطار جديد زاهي الالوان صنع في الآونة الاخيرة الفرجة في المدينة.يقال أنه جيء به خصيصا ليصنع فرحة الأطفال.و كانوا حقا متراصين فيه. و حتى أوليائهم ارتدّوا صبيانا و امتطوه معهم بكل السرور و كأنهم يقبضون على بصيص الفرح و هم لا يصدقون .

ضحكت ملء القلب.و تذكرت مقولة “كوكتو”: “الانسان عظيم ..رائع ! ” فأيدته في سري.

فسلام على الذي  رصّع بالامن و بالأمل جبين المدينة…جبين الوطن…

جيجل/جوان  2005    

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *