جيجل و يا أزرقها المشتهى !
اليوم آتيها من سدرة المنتهى…
البحر أمامي و الجبل من ورائي و الحرية أغلى ما الرب أهداني و انا واقفة على تخوم جمالها فسبحان الذي جلّ في علاه و أجلى للعالمين حسنها !
كيف آتي جديدها دون أن أوصف بالتقصير ؟
كيف أقول عنها الذي يجب أن يقال دون أن أتهم بالتطبيل؟
و كيف أداري على سحرها و المخلوقات كلها تصدح أمامه بالتكبير؟
جيجل و القلب و ما هوى !
ليس نشدان الراحة و الاستراحة أن تولّوا الوجوه شطر “نيس” أو “باريس”..
ليست السياحة فقط في ” فنيس”
فالجمال أيضا هنا…الجمال كله على محياها !
حين انطلقت بسيارتي الصغيرة صوب المسافات كنت متعبة ، مرهقة ، مخنوقة…دون تفكير أدرت المقود باتجاه البحر و صفاء البحر ، فوحده البحر ينسي الهموم…وحده البحر يغسل الانسان بالماء و البرد و الثلج ليصبح نقيا كلحظة الخلق…وحده البحر يرفع الانسان فوق الأشياء التي ترهق و الناس الذين يتعبون و الاختناق الذي لا يزول الا بالفرار من الاسمنت المسلح الذي يملأ الرؤوس.
كانت الطريق تمتد أمامي في انسياب جميل و شساعة الفضاء تريح القلب و الأعصاب .كان الجديد هو هذا الاتساع ، هذه الرحابة في طريق عهدناه ضيقا يسد الخناق على السائق فيحرمه التمتع بالمناظر الشاهقة الجمال المهداة الى عينيه من ربّ كريم، و كل تفكيره و كل حواسه في مقود السيارة حتى يخرج الى بر الامان بسلام.
كان الخطر حاضرا و كان حضوره قويا على شفا الكورنيش في نقاط عديدة و منعرجات شديدة تخفي مفاجآت قد تكون كارثية لمجرد لفتة الى ذلك الأزرق الرجراج الممتد في الأسفل جميلا ..جميلا و ساحرا.
و حرام أن يمتد الأزرق على الخريطة دون أن نمنحه لفتة انتباه…
حرام أن نُعطى الجمال دون أن نعطيه حقه من النظر…
حرام أن تكون المناظر بتلك الروعة و لا يفسح الطريق مجالا للتمتع بها…
و الحرام كله أن توجد امكانية توسيع للطريق و نضيق الخناق على الناس .
غير أن الامر تغير أخيرا …
أخيرا أخرج المشروع المستحيل من المكاتب المغبرة و نفض عنه الغبار و عرض تحت الشمس ثم نما في الأذهان النيرة ليصبح بعد حين حقيقة جميلة.
ألا يقولون “الارادة تحقق المعجزات” ..أليست “الارادة” تغيير طفيف في “الادارة” المستميتة في التقوقع في قمقمها بعيدا عن الشمس ..بعيدا عن الجمال؟
فمن يفتح عينيه؟ من يرى؟
و لا تسل عما ترى..
من قال أن المستحيل لا يُرى؟
هي هنا رقصة عشتار على صدر البحر…
هو هنا انسحاب الجبل اكراما لارادة الانسان…
ههنا يد رجل تشق الصخر…تزيد قليلا في فسحة النور…
جيجل و يا فتنتها الصارخة !
حين انطلقت الى أبعادك الاخرى ..أبعادك العذراء التي لا يدنّسها صخب المدينة و نفاقها كنت أريد أن أتنفّسك ، أن أحب طهرك ، أن أتشبع بهوائك النقي المُنقّى.كنت أريد أن أرى شيئا آخر فيك غير الظلام .كنت أريد أن أملأ عيني منك، أن احتمي بتاريخك و أشد على يدي الأخوين “بابا عروج “و “خير الدين بربروس” و هما ينصبان خيمتهما على شطآنك و أن أعاين أطياف جيوشهما و هي تُقلع من أرجائك فاتحة بلا هوادة المدن الاخرى .
قيل لي قبلها أنا التي كنت أخاف الاقتراب من بُعدك أنّ الطريق آمن و أنّ الجبل آمن و الحركة كأمتع ما يكون.
أخذت أسرّح البصر في مواضع الجمال فيك ثم انحرفت العين قليلا الى اليسار لتبارك اليد التي أخذت من الجبل بعضه لتبعد الهاوية بضعة أمتار أخرى هي ابعاد للموت الذي يحوم حول المكان منذ كان يا ما كان.
” الطريق الآن رحمة ” – قال بعضهم-
“ما أمتع السفر الآن!” – قال الآخرون-
” السطايفية الآن الى جيجل يحجّون و الجواجلة في سطيف يتسوّقون” – قال الطيبون-
و شهد شاهد من أهلها…
و شهدت السماء و الأرض و الملائكة على أن هذا الذي أنجز جميل و رائع .و حينها تذكرت مقولة نابليون:”ليست هناك أحلام مستحيلة”.
ليس شيئا أن تظل في مكتب نبتت عليه طحالب الكسل و قد تحوّلت الى خشبة من أخشابه، و تدعي أنك تمتهن الادارة…
ليس شيئا أن تمتهن البيات الشتوي في كل المواسم بين أربعة جدران أكلتها الرطوبة تقرأ الجرائد و تتقصّى الاخبار و تزعم أنك تمارس فنّ الادارة .فالادارة سعي و حركة ، الحياة كلها جهد و حركة و السعي اجتهاد وفي الحركة بركة كما قال الحكماء.
الاشتغال في الادارة معناه أن تدرس و تخطط و تنفذ و تتوقع وتدير مشاريعك بعناية و حب حتى لا تفلت منك ، أن تعاينها، أن تواظب على تفقدها مرة بعد مرة لتصبح أشجارا تعطي أكلها بعد حين.
فمن يفتح عينيه؟ من يرى؟
جيجل و بسمة الرب على ثغرها !
لم أكن أدري و الحشاشون يأخذون عشرة أعوام و أكثر من أعمارنا ، من حياتنا ، من زهرة شبابنا أنك ههنا امرأة تتعذر على الوطء و أنك تفضلين و تستميتين في البقاء عذراء ، عذراء كما في لحظة الخلق الاولى..لا شيء اخترق جسدك المرمري، تضاريسك الشاهقة حسنا لا زالت تغري و تتمنع و تغازل العيون و تتأبّى تماما مثل سيدة تملك زمام أنوثتها.العيون مشرئبة اليك في تعبّد ، و أنت لا مبالية في حصنك ملتحفة في عزلتك ، متفردة في بهائك.
” tata !لا ترجعي بنا الى الدار” – قال الصغير الذي يرافقني- و قد عبرنا من العرايش الى أولاد بوالنار فالمنار الكبير ثم كيسير و برج بليدة و خرجنا بعدها من العوانة عبر طريق فسيح تم انجاز الكثير منه و لا زالت الارادة الطيبة تشتغل على الباقي.”لا تعودي بنا الى البيت أرجوك” ترجّت عينا الطفل.و لأن قوّتي تتلاشى تماما أمامه استسلمت لرغبته و تابعت الرحلة على طريق سياحي نحو مجاهل الجمال ، نحو مرابض الحسن ، نحو نشاط و همة رجال يدبّون في سفوح الجبال يدقون الصخر و يفتتونه لتزهر الحياة و الأحلام.
منعرجات خطيرة خفتها و كنت أخافها أكثر فيما مضى من زمن و السحر كله تحتها منبسط للعيان…
الاهي ! ماهذا كله ! كيف لا نسبّحك بكرة و أصيلا و قد حبيتنا بهذه الجنة !
كبّرت …سبّحت…شكرت…أحسست بالقلب يتخلص من جاذبية الارض و من العلائق التي ترهق و يطير رهيفا خفيفا .تذكرت مقولة “باسكال” في نقطة ما كهذه من العالم :” ان اتساع هذا الفضاء اللانهائي يرعبني” . أما أنا فيرعبني حقا و أحبه حقا هذا الامتداد الشاسع ، هذا الازرق الواسع ، هذه الطبيعة التي تكشف طائعة عن مفاتنها و تتمرّد على لمسها .هذه الطبيعة المترفعة هنا عن تفاهاتنا ، عن أحقادنا ، عن دناءتنا.
“كلكم أنذال!” صاح هاملت يوما في وجوههم أولئك السادرون في الشر، العابرون للتاريخ و الجغرافيا باثّين الرعب و الذعر على مرّ الأزمان…كلنا أنذال أمام نقاء الطبيعة ، أمام عطائها و بليدو الاحساس فعلا أمام الدروس التي تعطينا ايّاها بالمجان و نحن في غيّنا نعمه و نضحك على خيبتنا، و الشياطين التي تسكننا دائما تبحث عن طرق جديدة لتشويه الجمال و مسخه فينا. و “الحياة بسيطة ، بسيطة و لكن نحن المعقدون” كما يقول “اوسكار وايلد” .
“ربنا لا تغفر لنا” صدق الذي دعا بها علينا…آمين !
جيجل !أقف الآن على تخوم فتنتها …
أقف و قد دعتنا الأضواء المنظمة للمرور لنتوقف و نقف على مقربة من “الكهوف العجيبة” لنتنفّس سحر المكان و هدوءه..أخذ الصغير يمد البصر كأنه يشاهد أعجوبة…ابتسم و هو يشير بيده الى عروس البحر و كأنهم أهدوه أجمل لعبة: “هل ترين !”.
“أرى يا بنيّ ! …المشكلة أنني أرى ما خلف الرؤى و لا أحب أن أرى ما يرى”.
ابتسمت له…قرّبته مني كأنني أحتمي به فالسحر مدوّخ في ذلك المكان ، في تلك النقطة عند سدرة المنتهى…
– ليتنا أحضرنا ماما معنا !
– في المرة القادمة ان شاء الله.
تشبّعنا بشيء جميل..جميل حتى الله و عدنا الى السيارة…
على بعد مسافة كان العمال و العتاد في حركة دؤوبة يشقون قلب الجبل لانجاز تحفة أخرى هي “نفق دار الواد” سبعمائة متر لاختصار الزمن و المسافة…سبعمائة متر لنقل الناس من الانتظار عند نقطة الاختناق الى مباهج الانطلاق و السرعة..سبعمائة متر ينجزها أولئك الراسخون في الحضارة و التمدن و قد جاءونا من الضفة الشمالية للمتوسط ليعلّمونا انه بالعمل وحده تبنى اجمل الحواضر .
حيّيت الجميع في سري و وددت لو نزلت الى أولئك الكادحين و صافحتهم واحدا واحدا و انحنيت احتراما لهم و تركت يدي في أيديهم التي يحبها الله .
عند المنتهى و بلدية “زيامة منصورية” تتمنى للعابرين طريق السلامة عدت أدراجي .
في طريق العودة صاح ملاكي:”أنظري القردة ما أجملها !”.
كانت قردة “تازة” على السور القصير للكورنيش كأنها تنتظر شيئا ما ..عادتها أن تنتظر هناك ..كانت جميلة بعيون إنسانية .استحضر ذهني نظرية التطور التي تدّعي أن أصل الانسان قرد.قلت في نفسي “لعل الأصح أن يكون أصل القرد انسانا.فكثير من الناس في تهافتهم البشع على المادة تحوّلوا الى مسخ لا يرقى حتى الى القردة” .قال الصغير في أسف:” ليتنا أحضرنا خبزا لها !” ..قلت أكلم نفسي:” انها لم تعد تأكل الخبز الحافي…لقد تعولمت مثلنا..هي تريد الموز و الله وحده يعلم كم ستكلفها العولمة هي أيضا”.
و في طريق العودة أيضا تبدّت أمامي أشياء صغيرة رأيتها كبيرة .كانت حافة الطريق مغروسة بشجيرات حديثة ستكبر يوما و تزيد من روعته و صلابته و كانت هناك نخلة ..نخلة كبيرة وحدها تعالج تغيرات الزمن و تشرئب إلى الأعلى كأنها في تسابيح خفية نيابة عن كل الناس الذين يعبرون أمامها غير مبالين.قيل لي أن السيد الاول في الولاية لم يشأ أن تقتلع و طلب الحفاظ عليها كما طلب بخلق مساحات على جانب الطريق التي ازّينت بديكور جميل لتوقّف المسافرين و استراحتهم في أماكن هيّئت لهم عند سفوح الجبال.
عدت اذن و القلب رائق، صاف و قد غيّر لحمه و دمه و نفض الملح الذي كان مرتصا في شرايينه في عرض البحر فهو الرحيم في جبروته، و هو الصافي لا يبقي على شائبة تشوبه، و هو المعطاء بلا منّ و بلا حدود.
و هو…هو البحر !
عدت مدجّجة بالصفاء لـ”أقول كلمتي و أمضي و للزمن بعد ذلك أن يحكم ” كما قال أحدهم ذات يوم و مضى .
(هذا النص كتب سنة 2006 )