الحبّ وحده يهزم الموت

الى روح "ايرما "الشجاعة و "جو غارسيا "المحبّ.

لم تكن تعلم وهي تودّعه صباحا باتجاه المدرسة أنه الوداع الأخير…

ولم يكن يعلم وهو يطبع قبلة حنون على جبينها الدافئ أنها القبلة الاخيرة …

ابتعدت الى حيث تنتظرها الفراشات الزاهية عند باب القسم بعيونها البريئة النهمة للحياة…

وابتعد الى مشاغله اليومية واطفالهما الأربعة يمدّون الجسر بين الوالدين ويوطدون دعائمه بمطالبهم الصغيرة وابتساماتهم العريضة وحبهم الكبير لهما…

سارت وهي تبتسم لصغارها في المدرسة وعيونها الداخلية تبتسم لصغار خلّفتهم وراءها ينتظرون عودتها في المساء…

سار وفي قلبه عطرها وفي عينيه أمل اللقاء المتجدّد والعودة بعد حين الى رائحة انوثتها وعنفوان حبّها …

لكن الحبّ لم يصمد هذه المرة هو الصامد منذ أن لاقاهما في الثانوية في وجه الزمن وتقلّبات الدهر …

أربع و عشرون سنة أو اكثر قليلا انفلتت في هاتيك الصبيحة من عقد الزمن لتنغلق على روح تصعد الى بارئها مدافعة برحمة و شراسة عن أطفال هم ليسوا لها لكنهم منها و هي منهم منذ أن هلّوا على حياتها و الى ان يرحلوا عنها ليبقوا في ذكرياتها و ذاكرتهم بعدها.

غير أنه هذه المرة على غير العادة كان رحيلا جماعيا معها لا بدونها لتتداخل الذكريات ولتجتمع المعلمة بتلاميذها الى الابد عند الذي لا يقتل عنده أحد.

هبّت زوبعة عاتية لم ترصدها محطات الرصد الإنساني لم تدم الاّ بضع دقائق اقتلعت أشجارا باسقة و شجيرات في طور النمو ، أحرقت الخضرة و الصفاء و الامل ، أطفأت الشمس و خلخلت هيكل السلام في محراب السلام و ولّت و قد نشرت الخراب و الألم.

في لحظة لقيطة من عمر الزمن ، خادعة ، في غفلة عن اعين العسس جاء الموت متخفّيا ، هائجا ، منفلتا من كل عقال و اكتسح ساحة المدرسة لم توقفه العيون البريئة و لم تعقله الابتسامات الطفولية الجميلة . فعل فعلته ومضى غير ملتفت لما جرى.

هو هكذا الموت الأهوج لا يلوي عنقه الى الوراء ليرى حجم حرائقه التي أضرمها و ولّى…

في لحظة كانت جثة هامدة بين جثث أحبائها وفي العين دموع خفية على أطفال سقطوا لم تستطع أن تخفيهم عن أعين الشرّ وأطفال لها خلفتهم وراءها لن يعرفوا حضنها بعد ذلك اليوم.

 كانت طيبة، قال الطيبون .

و كانت شجاعة ، أردف آخرون .

نعم كانت طيبة حتى النخاع و شجاعة حدّ الموت . فلربما الشجاعة هي الوجه الآخر للطيبة ، الوجه القوي … الوجه الخفي …

لماذا دقّ قلبه بعنف لحظتها ؟

هل رأت عيونه الداخلية شيئا ما ؟

"ايرما !..ايرما !" صاح الفؤاد وهو يرتجف من نبوءة تحط كبومة حطّت على غصن شجرة.

انقبض…انتفض…اختنق بإحساس وجيع …

الدموع محتملة والآهات مكبوتة وصدى صرخة ينقلها الاثير ترجّه رجّا…

واندلعت حشرجات في صدره حين وصله النبأ المفجع :"حقا…ايرما قتلت…بأي ذنب قتلت؟ … كيف؟ … لماذا؟"

ظلّ يتساءل غير مصدق :”لا هذا غير ممكن …لعله كابوس …أجل انه كابوس…”

ثم بعدها استيقظ على صرخته المدوية و الحقيقة تنفذ اليه كسكين حادّ . صرخة سمعها كل ساكني “يوفالد” و “التكساس” وأمريكا بجميع ولاياتها والعالم كله الذي أصبح قرية صغيرة الكبار فيها لا يحمون الصغار بل يطلقون النار عليهم هنا وهناك في الحرب والسلم.

لا أمان …لا أمان يا اطفال ! لم يعد لكم أمان مع هذا الذي يسمى خطأ انسان …

اللعنة على هذا الانسان…

خرج اليوم و القلب حابل بجواه … وضع باقة زهر عطرة على النصب الذي أقيم في المدينة لأرواح ضحايا  المأساة … تصاعدت الغصص الى حلقه و سدّت عليه منافذ التنفس …

يا ربّه الذي في السموات أنت وحدك الخبير بما يلقاه فارحمه ! تحولت ذرات الاثير الى أصوات تطلب الرحمة به من خالقها .

تحامل على نفسه و قام و القلب منكسر ، القلب متشظي …

اتجه الى البيت و دخل الى مطبخ لازالت رائحتها تفور فيه ، تهالك على أول مقعد صادفته يدُه تحت نظرات أهله الحزانى الذين ربما لم يرهم في حزنه العارم.

ثم فاجأ الجميع بغيابه ...

أفلتت روحه منه في وداعة طفل غير مشاغب…

هل هي أعراض القلب المنكسر BHS : Broken Heart Syndrome) كما قال بعضهم؟

تعجّل القلب لقياها … أي نعم … لم يستطع أن ينتظر قليلا …لم يستطع…

للحزن الفوّار ضحايا كثرٌ من القلوب الرهيفة …

وللحبّ كلمته الأخيرة أيضا حين يظن الموت أنه هزم حين فرّق …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *