“مقتطف من قصة : عبث البَرّ … عبث البحر”

بعد قليل ستترك كل هذا وراءك. ستنزع انكساراتك وهزائمك على الشاطئ وتمضي دون أن تلتفت الى الوراء.

عيناك تذهبان بعيدا اللحظة…

تنظر هناك…

تنظر صوب ماذا؟

من هناك عبر أجدادك “الموريسكيون” الى حيث أنت قبل قرون…

من هنا تريد أنت العبور في الاتجاه المعاكس تملأ خياشيم قلبك عطور يأتي بها خيالك الفائر من المدن البعيدة التي لا تغيب عنها الشمس منذ أن وطأها المسلمون ذات ماض جميل و تركوا فيها ابداعهم و كتبهم قبل أن يولّوا الادبار مطأطئي الرؤوس، ممزّقين و قد سلّموا غرناطة آخر معاقلهم في الأندلس.

أنت لم تقرأ التاريخ و لم تبكِ مع "ابو عبد الله الصغير" الذي وقف بسفح جبل الريحان حيث سلّم فرديناند وإيزابيلا مفاتيح المدينة و اخذ يذرف الدموع السِّجام على ملكه الضائع فقالت أمه عائشة الحرة تنهره و تعنّفه” ابكِ كالنساء مُلكا لم تحافظ عليه كالرجال “.

كان ذلك سنة 1491م …

ياه! حقبة سحيقة في تاريخ العالم لازالت آثارها كسكاكين حادة منغرزة في الجسد العربي المذبوح.

و لازالت تلك الربوة هناك التي سمّوها "تنهيدة العربي الاخيرة" تشي بضياع الأمم حين لا تكون على مستوى خطورة المرحلة التاريخية التي تجتازها و تنشغل بسفاسف الأمور عن عظائمها كما فعل بنو الاحمر آنذاك فضاعوا و ضيّعوا.

و لكنك لست ذاهبا هناك للبكاء على الأطلال . أنت تطلب الحياة …أنت تريد أن تعيش لا أن تتذكر فيكفيك مَقْطَفُ الذكريات الذي تحمله معك مع رائحة وطنك و شاي أمك و دعوات جدتك.

فمنذ خمسة قرون وأنت تراوح مكانك هناك…

منذ خمسة قرون وتلك الغيمة فوق رأسك ترفض أن تغسل عارك…

منذ خمسة قرون وشجرة الصنوبر تلك في سفح الجبل حزينة الأغصان على الذي كان والذي لن يكون…

أثناء بطالتك التي دامت عمرا من عمرك كثيرا ما غالبت هواجسك "بالاك غدّا يكون يوم زين !"

بالاك…ربّما !

وانتظرت…

وانتظرت…

وانتظرت…

لا شيء في الأفق.

لا شيء خلف الأفق.

لا شيء يَشِي بشيء في الأفق.

ازدحمت نفسك تماما بقهرها وذاك اليأس المدجّج يغرز سيوفه في خاصرتها …

سحقا لنفس تفاصيلها عارية للرياح، جراحها مفتوحة لملح البحر، قهرها لا تخفّفه حتى الدموع لأنهم لقّنوها منذ الصغر “الرجال لا يبكون”!

فهل الرجال ينتحرون؟

شوووت! ليس الوقت للأسئلة المارقة و الفال السيء..

ثم برق البحر في رأسك!

يا بحر! يا سيد الأسياد! هل هناك الاّك وصفة ، تميمة، تعويذة ضد ركوبك ؟

    السماء رمادية، الفضاء خالٍ، الصيف ينسحب ببهرجته الزائفة وقد رحل آخر السواح الذين يجيدون اماطة اللثام عن التاريخ وينتشرون عند أبوابه الكثيرة ، قصوره، أجراس كنائسه وحصونه يمسحون عليها تارة بيد من حرير وتارة يدقون على مغاليقها بقوة علّها تفشي لهم أسرارها العميقة فيعودوا الى منابتهم مسحورين بروائح الشرق ،معمّدين بماء الأوّلين المبارك. والخريف على أهداب هاتيك المدينة سرعان ما ينقضّ عليه برد الشتاء بمحموله من القسوة والعنف ليشعرك بأن فسحة الوهم انتهت وأن الحقيقة أبشع حين يرحل الصيف عن مدن الصفيح.   

رائحة الصعتر تحاصرك في تلك الأحراش المطلة على البحر حيث تتخفّى عن أعين العسس، حيث تنتظر رفاق بؤسك، رفاق محنتك، رفاقك في المركب الصغير الذي سيحمل أجسادكم الهزيلة جميعكم ويجد له طريقا في البحر سربا.

الأرض تحتك وحواليك طيّبة حتى الله، لكن في القلب نشيجا…

ربما خلف الجبل "كي نوجد الراحة"!

ربما خلف “الطارق” أطرق أبواب الجنة ولي عند خزنتها مفتاح أو ربّما حزمة مفاتيح!

ربّما !!!

للحظة ضجّ قلبك بفرح منتظر…

للحظة تناسى كل شيء وراح من جديد يحلم ويرتقب…

للحظة تخلّص من مخزونه المكتنز بخيبات الأمل و…

وانشرح…

ثم هأنتذا تلعن من جديد حتى النسمات الخفيفة التي تدفع بعيدا عن رأسك غيمة ترفض أن تغسلك بمائها المحتبس منذ قرون.

يا لطلّتك الجنائزية على تلك اللّجج الهائلة أمام ناظريك و البحر يفرد جناحيه العظيمين تحتك كطائر رخّ خرافي لن يأخذك الى جزيرة الأحلام كما في قصص الأطفال و حكايا الجدّات.

ليس كمثلك اليوم رجل في التّيه و الحيرة و الضياع…

ليس كمثلك رجل في تلك النقطة ، في تلك اللحظة ، بتلك الأفكار…

ليس كمثلك انسان أو شيء أو حشرة…

فراغ هائل في الداخل و أمواج قاتمة كالقطران تعلو وتهبط ، تذهب و تجيء و تتكسّر على جدران قلب أتعبته الأنفاق العاتمة التي لا نهاية لها، ثم تتشكل مرة أخرى وتجرفك الى كل فجّ عميق و زاوية مظلمة من يأس انتشر و سدّ دونك كل منافذ الحياة.

أيها المعدّ للرحيل منذ الميلاد عن أرضك ، عن أمّك  !

أيها الراحل عن جلدك!

أيها الرافض لواقع شرس لا يرقب فيك الّا و لا ذمة !

 أيها العابر الى الضفة المقابلة على رماد احلامك !

نسيج حزنك منشور على طول الساحل حيث أنت…حيث هم…حيث هنّ…

نشيج روحك صداه في الشوارع التي ستفتقد خطاك…و الأزقة التي لن تحمل اسمك…

لم تعد الشمس ممكنة و لا رغيف الخبز أصبح طازجا و لم يعد للانسان ملامح الانسان ههنا.. .

الماء مالح على البرّ و عصافير الفرح هاجرت الى الشمال منذ مدة طويلة و خلّفت يتامى كُثرًا على هذه الحافة ، في هذا البين…بين…

ثم ماذا؟

هأنتذا اليوم تقرر الذهاب لملاقاتها علّها تعود و تحطّ طائعة في راحة يدك.

اليوم ذاهب أنت و أنت ذاهل عمّا سيكون أو لا يكون…

اليوم انت راحل …و بعض الخيارات ما هي اختيار ، هي اختبار…

ولاح شيء في الأفق…

"خلاص! جاء “البوطي"، جات "الباطيرة" "

أخيرا  !

دق قلبك بعنف…دق…

صوت أحد الرفاق في أذنك وجيع "قولوا لامّي ما تبكيش و يا المنفي… و ابنك راح و ما يوليش يا المنفي!"

و بكت السماء و الارض و الاشجار و أنت تنزل الى البحر مع الرفاق الذين أخذوا يهلّلون و يلتقطون صور" السالفي" و هم يغادرون ملوّحين لوطنهم بالايادي ، وجوههم صوبه و قلوبهم عليه.

و دمعت عيون الوطن و قارب الموت يبتعد في موكب جنائزي ، حزين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *