مقطع من رواية “قضية عمري”

الرواية الفائزة بالجائزة الاولى للرواية من وزارة الثقافة 1997

تحتوي هذه الصورة على سمة alt فارغة؛ اسم الملف هو 31683659._UY630_SR1200630_-1024x538.jpg

   و حينما أسافر في البحر و في الليلو أنا أفكر فيه

   أرى الأمواج تولد و تموت…ثم تولد لتموت

    و أرى الطيور البيض تسبح في الهواء

    و السفن تنشر أشرعتها للريح

    كأنها عن بعد…وجوه كبيرة تتنزه على البحر

والبحر أمامي امتداد شاسع مفتوح على كل الإحتمالات : على الأخذ والعطاء على الهدوء والهيجان، على الحياة والموت…

البحر ملتف في أمواجه و أنا في أعطافه غريقة في ذاتي و ذكرياتي..و أنا في جنباته أستسمحه بحق الحب و حق الحزن العاتم الباحث عن الضوء و عن الشعر:

    قفا نبك من ذكرى حبيب و موطن …

و قبل أن يدركني سحر البيان يخرسني البحر: 

 لعمرأطلال بالأزرق الممتد // تلوح للقلب كالوشم في ظاهر اليد     

و تمتد عروق يدي تطوق القارب ..تشد على قلبي.. تمنعني من الإرتداد و من السقوط ..تدفعني إلى الأمام…

و يلتهب البحر الساكن من شجوني و يتعرى أمامي و يعريني…

أيدعوني لأن أسرد عليه قصة “الرجل الذي مات مرتين” ..رجلي ؟..

أم تراه اشتهى حكايا الموت فجاءني موجه طالبا “وقائع موت معلن”…موت سيده و سيدي و هو يعدني بـ “مائة عام من العزلة “و ألف سنة ضوئية من الوحدة والجحيم ؟..

ما الذي يريده البحر من شظايا الذاكرة ؟..

من عيون فؤادي ؟…

و أنا وإياه توحّدنا في الإشتياق لمن عبره ذات حرمان و عبر بي إليه….

أنا و إياه اليوم نتلاقى على خط الفقدان و خط التيه و الهيجان…

أنا أمد الشراع إليه و هو يبتعد عن شاطئه إلي…

أنا غاضبة ، حارقة…

و هو صاخب ، عات…

………

ثم هدأنا !!!

تغطى في سكينته و غطاني بأنفاس الذي رحل عنه و عني…

و تعاطفنا !!!

و سرت في موجه…

و سار موجه يتبعني..يفك شفرات حزني …

سار معي البحر وسرت فيه و قد أغراني بهدوئه كما تغري القلب فسحة الأمل..

فاللحظة هو هادىء تماما كطفل نائم في لفائف وداعته…

اللحظــة … هذا العملاق يترك قاربـي يغازلــه في حنان، ويترك لي أنا فسحة للأمل  ومجالا أجمع فيه شظايا النفس من كل زاويـة مظلمـة ومنعطف مجهول لأركبـها من  جديد ..لأبدأ بها رحلة الألف ميل …

 من جديد !!!

 الجو جميل الليلــة والسكون يكـاد يكون صارخا لولا انكساره المتقطع تحت وقع جلبة الصيادين وأصواتهم النشوى وهم يبتعدون عن الشاطىء .

هم أيضا بدؤوا الرحلة … بدؤوها مـنذ زمن بعيد و تمرسوا طوعا وقسرا على أخطار محاولة ترويض هذا المارد الجبٌار الذي سكن هو أيضا في غفوة جميلة وركن إلى الهدوء  الليلة .

سلٌمت عليهم وتركت في أعينهــم علامـات الإستفهـام والتعجب …

تــركت على ألسنتهــم الفواصل والنقاط …

   تركت لهم كل اللغة فتكفيني أنا اليوم لغة قلب هائم في ملكوت الإله.

 لست محتاجـة الى قواميس .لست محتاجــة الى مفــردات وشروحات . ما أمامي لا يفهم   بالكلام ، مـا أمامي يبسط نفسه وينبسط طائعـا لكل من يريــد أن يرى دون  وساطـات، دون   كلمات ،  دون شعارات .

 القارب في هدوء يزحف فوق الأمواج، وأضواء الميناء الصغير تبتعد عن ناظري وتضعف موجاتها شيئا فشيئا حتى تتحطم في الأخير على كتل الظلام.

   تحت برقع الليل والوحدة والسكينة تمتزج الأزمنة أمام عيني و تتداخل .

   هنا لا ماض ولا حاضر… 

   هنا زمن واحد موٌحد ينساب في رفق كما ينساب  الموج على جانبي القارب …

   هنا لا فعل ولا فاعل ولا مفعول به… 

وهنا يخضع القلب رائقا، هادئا لحركـة انسيابـية عبر كل الإتجاهـات ويقفز فوق كل قواعد اللغــة وقوانين الطبيعــة فأترك نفسي له وأتركـه لطقوسه ” البحرية ” .

     في عرض البحر أحسٌ بشيء جديد يولد فيٌ ، بقوة تتوزع في جسدي وبثقة كبيرة في نفسي  و قد روضت غضبي و روضني الحزن المستقرفي أحشائي على السكون تماما مثل هذا الذي شرع أمواجه في هدوء ليضمني .

أشعر بالأمان !!!

أشعر بالأمان ووجه طفل صغير يرتسم أمام عيني باسما، بريئا يباركني، يشجعني ويدفعني إلى إقتحام المجهول والإنتصارعلى كل عائق بيني و بينه يحول.

و فوق الصفحة التي ترتعش تحت نسمات باردة و التي يخيل إلي أنها راكدة، ساكنة ،و قد انغرست عيناي فيها و غابتا تحتها تتجلى لناظري صورة امرأة شابة تطل من نافذة بيت في حي شعبي في القصبة العتيقة لترقب ملاكها الصغير الذي انضم إلى الأطفال و هم يلاحقون رجلا رث الثياب منفوش الشعــر ،مفعمــا بالوسخ و بالضياع :”  كازيمودو !كازيمودو ! كازيمودو !”.

صيحات الأطفال ترشقه و هو هارب يسرع الخطو تارة و يستبد به الغضب فيجري وراءهم تارة أخرى.فإذا انفضوا من حوله استدار مهرولا في الشارع ، مزمجرا و الزبد يخرج من بين شفتيه الغليظتين فيعود الملائكة الجلادون إلى ملاحقته بطقوسهم التعذيبية حتى يقطع الطريق مسرعا بعيدا عنهم هائما على وجهه لا يدري من أين أتى و لا إلى أين هو ذاهب.

     و “كازيمودو ” ليس بشع المنظر إلى درجة أحدب « نوتردام » في رائعة « فيكتور هوجو ».هو فقط مع سوء مظهره فاقد لشقاوة العقل و أعور في مجتمع لا يرى.فكل الذين يرون ذهبوا أو صمتوا إلا هو ظل في جنونه يرفض الأشياء في نظامها الحالي و ترفضه الأشياء في فوضاها المتواصلة .

هو ظل هنا بنصف بصر و نصف بصيرة و كل الرفض…

لهذا يشكل الحالة الخاصة والظاهرة النادرة :إنه صامد ! انه لا يزال صامدا !

و الصمود في زمن الإرهاب عملية انتحارية…الصمود في زمن الارهاب حزام متفجرات على الخاصرة…الصمود في زمن الإرهاب يعني الموت حتى للمجانين.

و لعل كازيمودو الأعور أدرك الحقيقة فأخذ يمارسها عبر صموده ، عبر مقاومته، عبر رفضه…

 وهي ذي  جريرته.. هي ذي جريمته الأولى…

فما كان يجب أن يفتح عينا في مجتمع أعمى…

كان يجب أن يغمض عينيه الإثنتين…أن يكون كالآخرين…أن لا يتميز…أن لا يميز…

و صدموه !

صدم المسكين بذلك الكم الهائل من البشاعات فارتد إلى الوراء عليلا.

سقط…

سقط ولم يره أحد .و لعلهم رؤوه كلهم و ما رؤوه . فضلوا أن يعبروا فوقه أو أن يمروا عبره أو أن يتخطوه درءا لأي شبهة.

وحين استفاق كان ملجؤه الجنون.

اختار أم اختير له؟..

من يدري ؟فالفوضى عامة و الظلام كثيف و الرؤية مستحيلة و المنطق ضرير.

     و لا أدري أنا من ناداه أول مرة « كازيمودو ».لكن الأطفال اختطفوا الكلمة من الكبار و لعل هؤلاء تلقفوها دعابة جاد بها لسان أحد الذين استهواهم عمل الكاتب الكبير فأطلق اسم بطله على الرجل المسكين تحت تأثير آني لتلك الصورة الإبداعية الجميلة  للشخصية الروائية الفذة التي جاءت بها عبقرية أديب فرنسا العظيم.

“هاهنا يقتتل الليل و النهار !”..قال أديب فرنسا هذا و هو يموت..

هاهنا في الجزائر تقتتل الليالي ! أقول أنا و قد ذهب النهار..

و المهم أن الإسم الأصلي نسي و اندثر من الذاكرة الجماعية لسكان  الحي و الجوار ليصبح الرجل أينما حل كازيمودو  … 

كازيمودو .. وفقط.

و مع ذلك فلم يخطىء من أطلق عليه هذا الاسم.فهو بالفعل يشترك مع بطل الرواية الفرنسية الرائعة في ذلك الرصيد من  الجمال الباطني.

  لهذا أفضل أنا أن أرى في التسمية الجديدة الوجه الآخر…الوجه الجميل. …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *