آهات أمام خريطة العالم العربي

عام آخر يمرّ و الأمة العربية في سباتها الشتوي العميق الذي طال كل الفصول و كأنها اخذت منوما قويا لا يبدو معه أنها ستستفيق بعد حين.

و استباح جسدها المغتصبون الكبار بمباركة المتواطئين الصغار و قد سوّلت لهم أنفسهم أن يلعبوا على درجات الغباء و الحمق الذي ركبها منذ خروج بني الاحمر مذلولين من غرناطة لاقناعها بضرورة التصفيق لهذا الفعل المخلّ بالحياء و بالحياة ، المعتدي على نواميس الكون ، الخارق للمواثيق الدولية، الجارح للكرامة الانسانية فاذا هم يدوسون بنعالهم على كل المبادئ و القيم التي تقوم عليها الحضارات و التي أسّست عندهم للدولة الحديثة و يتكالبون عليها كما فعلوا في الماضي بل يتصارعون و يتآمرون مستمرين في التخطيط و التدبير للتنكيل بهذا الجسد المريض و تمزيقه أشلاء يمكن ابتلاعها بسهولة .

لا توازن ، لا استقرار ، لا نهضة على رقعة هذا العالم العربي العامر بالبركة و قد حباه الله بخيرات و ثروات و موقع أخّاذ و جعل فيه امة قال فيها عزّ و جلّ “كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف و تنهون عن المنكر و تؤمنون بالله” هكذا قُرّر لنا. 

كنتم …نعم كنا …كنا حين كان الانسان  ههنا يؤمن بأنه خليفة الله في الارض و عيب عليه أن تكون صورة هذا الخليفة رديئة و منحطة و …   و يمكن ان نختصر كل الصفات الاخرى بأنه مجرد مسخ دونه كل النعوت.

عام آخر يمضي تقدمت فيه أمم حققت شروط نهضتها و تأخرت اخرى أضاعت سبيلها و ضيّعت حتى ما كان لها ، بل اراقت بعضها حتى ماء وجهها و هي تلهث عمياء وراء شيء لا ندريه و لا هي تدري الى أين سيقودها .

عام آخر ينفلت من عقد الزمن و الارض تئن تحت وطأة البشاعات التي تمارس ضدها كأنها ليست بيت البشر الذي يجب ان يكون آمنا ، دافئا و ساكنا و انما عدوّ لدود يجب استنزافه ،انهاكه ثم الاتيان عليه، و الشعوب تصرخ في كل مكان ضد ما يراد بها و لا من مجيب و قد أزاح جُسيم مجهري ورقة التوت عن وجوه بعض الناس فاذا هي لا تمت لآدم بصلة . و لأن هذه الوجوه ليست آدمية الاّ بالمسميات فهي لم و لن تكون رحيمة بالضعفاء في أي شبر من الكرة الارضية ، و الاكيد أنها لن تتوانى في الدوس على كل من تسوّل له نفسه الوقوف ضد مطمحها في اعادة رسم خريطة العالم العربي و الاسلامي و تمريغ شعوبها في التراب و الله وحده يعلم ما ينتظرهم من مصير حينذاك. 

اللهم لا تغفر لتلك الايادي التي اغتالت و لازالت أحلامنا في نهضة الامة من المحيط الى الخليج و حشرتنا في تلك الزاوية التي قال فيها نزار قباني قصيدته المشهورة التي أحرج الكثير بالقائها في تونس بمناسبة الاحتفال بالذكرى الخامسة و الثلاثين لتأسيس الجامعة العربيّة :

يا تونس الخضراء جئتك عاشقا // وعلى جبيني وردة وكتاب
إنّي الدّمشقيّ الذي احترف الهوى // فاخضوضرت لغنائه الأعشابُ
أحرقت من خلفي جميع مراكبي // إنّ الهوى أن لا يكون إياب

أحببتهنّ وهنّ ما أحببني // وصدقتهنّ ووعدهنّ كذاب
إنّي لأشعر بالدّوار فناهد // لي يطمئن وناهد يرتاب
هل دولة الحبّ التي أسّستها // سقطت عليّ وسدّت الأبواب؟
ماذا جرى لممالكي وبيارقي // أدعو رباب فلا تجيب رباب؟
أأحاسب امرأة على نسيانها//  ومتى استقام مع النّساء حساب؟
بدأ الزّفاف فمن تكون مضيفتي؟ // هذا المساء ومن هو العرّاب ؟
أأنا مغنّي القصر يا قرطاجة؟ // كيف الحضور وما عليّ ثياب؟
ماذا أقول فمن يفتّش عن فمي//  والمفردات حجارة وتراب
فمآدب عربيّة وقصائد // همزيّة ووسائد وحباب
من أين يأتي الشّعر يا قرطاجة// والله حيّ وعادت الأنصاب
من أين يأتي الشّعر حين نهارنا// قمع وحين مساؤنا إرهاب
سرقوا أصابعنا وعطر حروفنا // فبأيّ شيء يكتب الكتّاب ؟
والحكم شرطيّ يسير وراءنا// سرّا فنكهة خبزنا استجواب
الشّعر رغم سياطهم وسجونهم // ملك وهم في بابه حجاب
من أين أدخل في القصيدة يا ترى // وحدائق الشّعر الجميل خراب
لم يبق في دار البلابل بلبل// لا البحتريّ هنا ولا زرياب
شعراء هذا اليوم جنس ثالث // فالقول فوضى والكلام ضباب
يتكلّمون مع الفراغ فما هم // عجم إذا نطقوا ولا أعراب
اللاّهثون على هوامش عمرنا // سيّان إن حضروا وإن هم غابوا
من أين أدخل في القصيدة يا ترى // والشّمس فوق رؤوسنا سرداب
إنّ القصيدة ليس ما كتبت يدي // لكنّها ما تكتب الأهداب
نار الكتابة أحرقت أعمارنا // فحياتنا الكبريت والأحطاب
ما الشّعر؟ ما وجع الكتابة؟ ما الرّؤى // أولى ضحايانا هم الكتّاب
يعطوننا الفرح الجميل وحظّهم// حظّ البغايا ما لهنّ ثواب

يا تونس الخضراء هذا عالم … يثرى به الأمّيّ والنّصّاب
فمن الخليج إلى المحيط قبائل// بطرت فلا فكر ولا آداب
في عصر زيت الكاز يطلب شاعر // ثوبا وترفل بالحرير قحاب!!!
هل في العيون التّونسيّة شاطئ// ترتاح فوق رماله الأعصاب
أنا يا صديقة متعب بعروبتي // فهل العروبة لعنة وعقاب
أمشي على ورق الخريطة خائفا// فعلى الخريطة كلّنا أغراب
أتكلّم الفصحى أمام عشيرتي// وأعيد لكن ما هناك جواب
لولا العباءات التي التفّوا بها // ما كنت أحسب أنّهم أعراب
يتقاتلون على بقايا تمرة// فخناجر مرفوعة وحراب
قبلاتهم عربيّة من ذا رأى // فيما رأى قبلا لها أنياب

يا تونس الخضراء كأسي علقم // أَعَلى الهزيمة تشرب الأنخاب؟
وخريطة الوطن الكبير فضيحة // فحواجز ومخافر وكلاب
والعالم العربيّ إمّا نعجة // مذبوحة أو حاكم قصّاب
والعالم العربيّ يرهن سيفه// فحكاية الشّرف الرّفيع سراب
والعالم العربيّ يخزن نفطه // في خصيتيه وربّك الوهّاب
والنّاس قبل النّفط أو من بعده// مستنزفون فسادة ودوابّ
ماتت خيول بني أميّة كلّها // خجلا وظلّ الصّرف والإعراب
فكأنّما كتب التّراث خرافة // كبرى فلا عمر ولا خطّاب
وبيارق ابن العاص تمسح دمعها // وعزيز مصر بالفصام مصاب
من ذا يصدّق أنّ مصر تهوّدت// فمقام سيّدنا الحسين يباب
ما هذه مصر فانّ صلاتها // عبريّة وإمامها كذّاب
ما هذه مصر فانّ سماءها // صغرت وانّ نساءها أسلاب
إن جاء كافور فكم من حاكم // قهر الشّعوب وتاجه قبقاب

بحريّة العينين يا قرطاجة // شاخ الزّمان وأنتِ بعد شباب
هل لي بعرض البحر نصف جزيرة // أم أنّ حبّي التّونسيّ سراب
أنا متعب ودفاتري تعبت معي// هل للدّفاتر يا ترى أعصاب؟
حزني بنفسجة يبلّلها النّدى // وضفاف جرحي روضة معشاب
لا تعذليني إن كشفت مواجعي // وجه الحقيقة ما عليه نقاب
إنّ الجنون وراء نصف قصائدي// أوليس في بعض الجنون صواب؟
فإذا صرخت بوجه من أحببتهم // فلكي يعيش الحبّ والأحباب
وإذا قسوت على العروبة مرّة // فلقد تضيق بكحلها الأهداب
فلربما تجد العروبة نفسها// ويضئ في قلب الظّلام شهاب
ولقد تطير مع العقال حمامة // ومن العباءة تطلع الأعشاب

قرطاجة قرطاجة قرطاجة// هل لي لصدرك رجعة ومتاب
لا تغضبي منّي إذا غلب الهوى// إنّ الهوى في طبعه غلاّب
فذنوب شعري كلّها مغفورة // والله جلّ جلاله التّوّاب 

و ان كنا ندعو الله أن يغفر لنزار قباني ذنوبه و ذنوب شعره فاننا بالتأكيد نستنصره على من جعلوا العالم العربي و الاسلامي غنيمة لخفافيش الظلام و مصّاصي الدماء وهو ارض الرسالات و الفتوحات و ارض الحضارات العريقة و الآداب المعتقة و العلوم التي شهد لها بعض المستشرقين بقولهم “شمس العرب تسطع على الغرب” حين كان العرب يرتعون في قلب اروبا و قد عمروا الاندلس و اوقفوا الدنيا و لم يقعدوها علما و فنا و فلسفة و حضارة، حين لم يصبحوا بعد ملوك طوائف و تدور عليهم الدوائر.

يقولون ان التاريخ يعيد نفسه …

ربنا انك تعلم ما في نفوس الاخيار من عبادك فأوقف عجلة التاريخ قبل أن تدوسهم فان العزة و القوة لك وحدك و الكل على هذه الارض تراب مهما ظنوا الظنون.ّ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *