سنذهب جميع الى الجنة

      لم أكن في صحة جيدة هذا الصباح لأقطع مشيا ككل يوم المسافة التي تفصل البيت عن مقر العمل . وهي ليست مسافة طويلة على أي حال، فاستقلت الحافلة التي لم تكن على غير عادتها مكتظة بمحمولها من البشر ، فقد تأخرتُ نصف ساعة عن وقت الضجيج و الزحام.

     جلست على كرسي شاغر بجانب فتاة لا تقول ملامحها شيئا، و رحت أبحث في حافظة النقود عن قطعة معدنية تفي بحق الركوب في انتظار أن تسير الحافلة.

و قد سارت الحافلة في شارع لازال لم يستيقظ تماما من نومه، فأبواب الدكاكين و المتاجر على جانبيه لم تشرع أبوابها كلها ، و الشباب العاطل عن العمل لازال لم يُخرج قرون الاستشعار من تحت أغطيته الدافئة ليبدأ في تسقّط الأخبار و ترقّب النكات التي يبرع في ابداعها ضحكا على حياة كاريكاتورية يعيشها.

 سارت الحافلة و في داخلها واحد يقرأ جريدة ، آخر يتثاءب في تكاسل ، أخرى تفكر في كلمات خطيبها التي هدهدت نومها ليلة البارحة، و تلك قلبها يعتصر ألما و غيظا من كلمات حماتها النارية التي لا تريد أن تتركها تمارس حياتها مع زوجها كما تراها، و هاتيك ، دموع الأمس لازالت آثارها في عينيها و زوجها يتوجّع من مرضه العضال دون أن تستطيع له شيئا.

لكل همّه ، و الحافلة تسير غير عابئة بالهموم التي بين جوانحها.

و سمعت صاحب الجريدة الجالس أمام السائق يقول و صوته يشي بغضبه :

– والله انّي لا أحب حتى أن أراهم.

– معك حق لقد كرهناهم- رد عليه السائق موافقا-

– جعلونا نكرههم فقد تعدّوا كل الحدود و نهشونا كأننا اليهود.- أردف قارئ الجريدة-

لمست من خلال كلام هذا الأخير أنه يتحدث عن جماعة من المصريين لا أدري هل هم زملاء له في العمل أم يعملون بالقرب منه.و المهم أن قلبه يسيل مرارة منهم و لم يعد يحتمل حتى أن يلتقي بهم أو يراهم.

” يا للخسارة ! – قلت في نفسي- هذا ما جناه البسطاء من الشعبين في كلا البلدين و من أجل ماذا ؟ من أجل جلدة منفوخة”.

و تخيلت الذين يسعون الى الكراهية بين شعوب منصهرة في بوتقة الدين و التاريخ و اللغة ورأيتهم بين يدي الله يسألهم عن هذه الفرقة التي حدثت بين أخوة ما يجمعهم أكثر مما يفرقهم.و الغريب في الأمر أن كلمات المغني الفرنسي التي كنت أدندن بها البارحة بعد أن صادفتني و أنا أتابع برامج قناة فرنسية ، جاءتني ترفل في سخرية الموقف “سنذهب جميعا الى الجنة”.

و نزلت من الحافلة قريبا من مقر العمل و تركت ورائي نقاشا مغموسا في السم الأسود و في الفضاء شهيد في سيناء يواسي شهيدا في الجزائر ، و في الفضاء صدى الذين ذهبوا الى الجنة لأنهم “صدقوا ما عاهدوا الله عليه” و في الفضاء كلمات نورانية لزعماء أبوا أن يخونوا القضية ، و في الفضاء تاريخ قديم متألق بأمجاده و رجاله ، و في الفضاء اليوم دخان قاتم و ضباب أسود ممتد من البحر الأحمر الى البحر الأبيض المتوسط.

كم يلزمنا من الزمن الآن لردم هذه الهوة ؟

كم يلزمنا من الحكمة والارادة لتنقية الجراح وتضميدها وهي كثيرة وغائرة في هذا الجسد العربي الذي ثآليله تضخّمت بشكل مفجع وقبيح وأصبحت تؤلم كثيرا ويسيل قيحها على كل مجالات حياتنا العربية؟

كم يلزمنا من الطاقة و الجهد للعودة ، و فقط للعودة ، الى النقطة التي كنا عندها حتى و لو كانت النقطة الصفر . فالصفر اختراع عربي بامتياز !؟

وبعد…

on ira tous au paradis” كلمات أغنية المطرب الفرنسي الذي اعتزل الناس سنوات و عاش بعيدا عنهم و هو في قمة مجده و تألقه، و رفض الاحتكاك بهم و بضجيجهم و زحامهم و تهافتهم ،       ليعيش في منفاه الاختياري بل الاضطراري لأنه تعب في أنفاق دنيا الهروب منها في أحيان كثيرة راحة لابد منها و السعي وراءها تعب لا محل له من الاعراب ، كلمات لا أدري لماذا علقت برأسي في هذا الصباح الشتوي الذي يقول كل المواسم الاّ الشتاء مع أن البلدة لا تعرف ثاني أكسيد الكربون الا في زجاجات  البيبسي و الكوكاكولا و الانفاس التي تخرج من صدور مخلوقات الله على ظهرها.

و نحن ، في أرض العربان، الذين نحب أن نعيش كفارا ونموت مسلمين ، نحن الذين نهوى النفاق  و الرياء و الخبث و التنابذ ، نحن القاعدون ، الخاملون ، المتقهقرون على كل الأصعدة ، نحن الذين نظن كثيرا أن الجنة هي آخر المطاف مهما فعلنا و اقترفنا من خطايا و أن السؤال و الحساب و العقاب مجرد مرحلة انتقالية بسيطة سنقفز بعدها الى ضفاف نهر الكوثر ، نحن الذين نتمرّغ في عيوبنا و عارنا على كل الجوانب و نتلذذ بذلنا و نعلّق فشلنا على مشجب “المؤامرة” التي تحاك لنا في كل مكان لنقبع في دور الضحية و ما يخلّفه لنا من راحة ضمير وهمية تغنينا عن بذل الجهد و التشمير عن السواعد ، نحن الذين أصبحنا أعجاز نخل خاوية تصفر فيها من المحيط الى الخليج رياح الحقد و الضغينة و الكراهية و الفرقة ، هل حقا سنذهب الى الجنة ؟هل حقا نستحق أن نذهب الى الجنة بعد أن ضعنا و ضيّعنا ؟

يا الله الذي في السموات والأرض! حرّم جنتك علينا فإننا لا نكاد نؤمن حتى بوجودك ولو آمنّا ولو قليلا لكنا نرفل اليوم في رحمتك ولكانت حياتنا أقل بؤسا وهوانا وأكثر كرامة و نعما.

يا الله يا عظيم !  الأرض تئن تحتنا و جسد أمتنا مستباح و كبار العالم غلّقوا الأبواب عليه فقلنا لهم “هيت لكم” فكيف نتبجّح

و نرجو رحمتك و بين جوانح بيوتك يرتفع صراخ أئمتنا بالدعاء بالبركة لكبارنا و هذا المسوخ العربي هو صنعة كبارنا؟

يا الله يا عزيز ! أحد عبادك الصالحين قال يوما بعد عودته من جولة في الغرب :”ذهبت الى الغرب فوجدت الاسلام و لم أجد المسلمين و عدت الى الشرق فوجدت المسلمين و لم أجد الاسلام”.

فكيف يذهب الى الجنة من ضيّعوا الاسلام؟

و كيف لا يحق لهذا المطرب أن يؤمن بأنهم هم جميعا ذاهبون الى الجنة و هم الذين صانوا أنفسهم و مجتمعاتهم عن الدناءة و الزيف و النفاق و الظلم و أسسوا على النقيض منا دول العدل و القانون و طبقوا بينهم مبادئ الحرية و الأخوة و المساواة و احترموا الانسان ..انسانهم هم الذي يعيش بين جوانبهم.

و أخيرا…

الدراما العربية لازالت حلقاتها متتابعة بلا نهاية و لازلنا نمارس شهوة التناحر و التخوين و التراشق بسهام مسمومة و ندعي بطولات خرافية لا نراها الاّ نحن ، و نحن أقزام أمام غيرنا .لازلنا بنظرتنا الدونكيشوتية للأمور نتوهّم أننا أتينا أقصى ما نستطيع، و أن العيب في الظروف التي تعاكس ريحُها شراعنا، و نأمل و يطول بنا الأمل في أننا في آخر الرحلة سنكون في جنة الرضوان فقد قيل لنا و العهدة على القوّال أن المسلمين جميعهم ستظللهم خمائل الفردوس بعد البعث و الحساب . لا بأس اذن أن نستمر في التهافت على الدنيا حتى وهي قد ركبت ظهورنا و قوّستها و تركت أخاديدها على وجوهنا وأجسادنا.  لا بأس أيضا أن نستمر في الاستكانة و الخنوع و الذل و المسكنة و الانبطاح و حتى التواطؤ مع أعدائنا و الاستهانة ببعضنا فنحن لاشيء في نظر بعضنا . لا بأس أن نواصل استهلاكنا لكل ما يأتينا ممن فهموا جيدا دورهم في الوجود، وتمتّعنا الاحمق بذلك، فغايتنا منذ خروج بنو الأحمر من غرناطة هي متعة البطون و ما تحت البطون. ولندس على كل شيء في طريقنا ، ليسحق الأقوياء فينا الضعفاء فللضعفاء  ربّ يتكفل بهم اذا شاء و اذا لم يشأ فـ”مالتوس ” وجد حل المعادلة منذ زمن، فلماذا نتعب رؤوسنا بالتفكير فيما لا يخصّنا ؟ لندع الأمور تسير، و هي ستسير طبعا لأنها “مأمورة”.

و غدا سنذهب جميعا الى الجنة !

كتبت بتاريخ 06/01/2010

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *