الشيخ و …الكتاب

     قالت زميلتي التي التقيتها صدفة في الرواق الذي اصطفت مكاتب العمل على جانبيه و ابتسامتها العريضة تغطي وجهها الأبيض الجميل:" أتعلمين بابا مضرب عن الطعام و الكلام منذ شهر ! ".

     و ضحكت ضحكة خفيفة و أردفت:” جاءت يمّا لزيارتي و حين سألتها عن أحواله قالت أنه لا يكاد يأكل أو يتكلم منذ شهر. استفسرتها عن السبب و لن تصدقي يا وهيبة بما أجابتني حتى أني تمنيت أن ألقاك لأحكي لك القصة…".

     و القصة الطريفة هي أن أباها الشيخ الجليل ، مدير مدرسة سابقا و متقاعد منذ سنين، اشترى كتابين لا تدري زميلتي عنوانيهما لأن والدتها الكريمة لا تعرف القراءة و الكتابة. ثمن كل كتاب منهما فاق الأربعمائة دينارا . و أتى بهما الى المنزل و هو يرفل في السعادة و الهناء. قرأهما و وضعهما جانبا ليعود الى تصفحهما ثانية الاّ أنّ حفيدة له كانت في زيارة الى بيت جدها، حين رأت الكتابين بغلافيهما الجميلين عبثت بقداستهما ، فالشقية لم تكن تعرف مقدار ما يكنّه صاحبهما للكتب من حب و تقدير لذا  راحت شياطينها تخربش على غلاف أحدهما محدثة فيه خدوشا ما أن رآها الشيخ حتى اسودّت الدنيا في عينيه و اربدّت.

     كان أهون عليه لو تزلزلت الأرض تحت قدميه ، لو حدث تسونامي و أودى بحياة الخلق كلهم، لوحلّ يوم البعث و الحساب و حانت لحظة مروره على الصراط و لم تُعثْ الصبية فسادا في جوهرته الثمينة. فتلك عنده جريمة لا تغتفر ، تلك أمّ الخطايا لمن له نظر.

     الشيخ الجليل اذن، حين رجع و رأى ذلك الخراب في كتابه الغالي، الرصين، الجميل، انخلع قلبه و انفطر و اجتمع الجن و الانس كلّهم و أقبلوا عليه يدقون رأسه حتى فار مخّه و اشتعل غضبه و صرخت كل شعيرة دموية في قلبه من هول ذلك الدمار الذي لحق بعالمه.

     و لأنه هادئ الطبع ، دمث الاخلاق ، ليّن الجانب ، و لأنه مثقف من الطراز القديم ، و لأنه لا يعرف كيف يثور الاّ في وداعة وهدوء ، اكتفى بقطيعة أهل بيته ، و صام عن الكلام و الطعام ، و انكفأ على نفسه و حزنه بعيدا عن بيئة لا تحترم كتبه.

     و حين حاولت أمّ العيال أن تردّه عن تلك الثورة اللطيفة قائلة أنه لم يحدث شيء يستحق كل هذا الهمّ الذي هو فيه،  فذاك مجرّد كتاب و الطفلة صغيرة لا تعرف بعد عاداته و محبوباته ، قال لها بكل رصانة و هو يرفع سبابته في وجهها "سأتولّى أمرك فيما بعد !".

و كيف لا و هي لم تنتبه الى الصغيرة حين تسللت الى محرابه و لعبت بإحدى شموعه.

ثم عاد لصمته و صومه تاركا أهل الدّار في وجوم من تصرفه العجيب هذا .

    و ختمت زميلتي المرحة قصتها قائلة و ابتسامتها قد زادت حجما "هل رأيت ، كل هذا من أجل كتاب !" و ابتسمت لها و قلت:"سلّفيني أباك…انه رائع !".

    و دردشنا قليلا ثم انسحبت كل واحدة الى مكتبها. و استحضرت ذكرى هذا الشيخ الوقور و هو جالس على أحد المقاعد الأمامية في القاعة التي احتضنت ذات صيف أحد ملتقياتنا الأدبية التي كانت تنظمها البلدية قبل أن تعود الى جذبها و قحطها من جديد . كان يستمع الي وأنا على المنصة بكل جوارحه و كان ينظر بين الفينة و الأخرى الى صديقه في المقعد المجاور و علامات الرضى على صفحة وجهه التي تعكس نورا داخليا و صفاء روحيا بهيّا. و عند باب الخروج من القاعة اقترب الاثنان مني و قال لي هو ما معناه أنّ قصتي جميلة داعيا ايّاي الى مواصلة المشوار، الشيء الذي أكده لي رفيقه قبل أن يغادرا بخطواتهما الوئيدة . و نسيت الذاكرة تفاصيل اللقاء الأخرى.

     و لم أكن أعرف حينذاك الرجل مع أنّ ابنته الأخرى المتخصصة في البيوكيمياء كانت زميلة لي في أحد المخابر و قد كانت هوايتها الجميلة هي أيضا الابتعاد عن الناس و الغرق في المطالعة. و لم أكتشف أن ذاك الشيخ المهندم، الجميل هو والدها الاّ بعد سنوات حين صادفناه في الطريق العام أنا و أختها تلك ، الموظفة معي في نفس المؤسسة . قالت في حبور و هي تشير الى الرصيف المقابل:"هاهو بابا …انه لم يرني !"و نظرت الى تلك الناحية و قلت:"حقا ذاك أبوك ! "

– نعم– ردت بحماس- انه عاشق لللّغة العربية و يموت في الكتب و قد صحّح حتى بعض المخطوطات لبعض الكتاب قبل أن ينشروها . و ألّف مع فلان كتابا في اللغة و قواعدها و…

و قاطعتها: "و هو انسان رائع بالتأكيد !"

– نعم رائع حقا – أجابتني و نظرات الحب ترافق والدها على الرصيف الآخر-

وحدثتها عن لقائي به في ذاك الصباح الأدبي فقالت أنه لا يتخلّف أبدا عن حضور مثل هذه الملتقيات.

هل أطلت؟

     انّ أطرف ما في الأمر عند زميلتي هو اضراب أبيها عن الطعام و الكلام من أجل أمر بسيط..كتاب…مجرد كتاب !

     انّ أجمل ما في الأمر عندي هو هذه العلاقة الودية، الحميمة التي تجمع انسانا بكتاب والتي ان خُدشتْ أظلمت الدنيا في عيني الانسان كما تظلم في عيني حبيب حاولوا خدش محبوبه.

     هو شيخ من سلالة آيلة للانقراض ، شيخ من زمن جميل لازال في جرابه شيء نعجب له و نندهش أمامه كالبسطاء ، كالسذج أو كالأغبياء مادام الزمن زمن الغباء و زمن الاستغباء الذي ركن نتاج العلم و العلماء و الفكر و المفكرين والأذكياء و النيرين -الذين لم يعودوا يشكلون النخبة في مجتمعاتنا- على رفوف المكتبات المغبرّة  يكاد لا يقربه أحد خاصة في مجتمعاتنا العربية الغارقة في الجهل و الامية.

     يحق لزميلتي أن تجد ريح الطرافة في سلوك والدها لأن حب الكتب أصبح فكاهة ، شيئا طريفا لا يمارسه في نظر الآخرين الاّ السذج و المهمّشون أو الذين فاتهم قطار الحياة لأنهم لا يعرفون الحذلقة و الشطارة و القفز على الفرص.

     يحق لزميلتي و هي التي تحب أباها حبًّا جمًّا أن تبحث عنّي ، عن انسان فيه شيء من رائحة الشيخ لتحكي له الطرفة فهو وحده يعرف معنى الطرفة و مداها .و هو وحده مثل الشيخ يسري في عروقه الحبر دما و يصير الدم رحيق الشعر و فاكهة الكلام.

     يحق لزميلتي التي علّمها والدها حب القراءة وان لم يرقَ هذا الحب ليصبح شغفا على شاكله شغفه أن تبحث عن ظلّ هذا الوالد في محيطها لترى وقع الحكاية في فكر هو على موجة فكر ذاك الذي تحفّه ملائكة الرحمان مادام الآخرون غارقون في لامبالاتهم حتى الذقن.

     ولا أدري أهو توارد خواطر أم ماذا، فقد صادفتني وأنا أفكر في معضلة الكتب المهجورة في زماننا هذا، في أوطاننا هذه، فقد أشارت بعض الاحصائيات الى ان معدل القراءة لدى الفرد العربي ست أو سبع دقائق مقارنة بالمواطن الغربي الذي يقرأ ست و ثلاثين ساعة في العام، و أن ربع صفحة في العام هو نصيب العربي من قراءة الكتب مقابل سبعة كتب للانجليزي و أحد عشر كتابا للأمريكي.

     وحتى طلاب العلم في الجامعات و الثانويات في العالم العربي لا يقرؤون. فقد جاء في احدى المقالات التي سلطت بعض الضوء على الحجم الضئيل للمقروئية عند العرب أنه جرى استطلاع بين الطلبة عن مدى معرفتهم بالمفكرين و الشخصيات العامة فجاءت نتيجة الاستطلاع مهزلة من العيار الثقيل، حيث أن ” 59 % عرّفوا كوفي عنان على أنه حارس مرمى منتخب الكاميرون و 16 % أجابوا عن روجي غارودي على أنه لاعب في منتخب فرنسا عام 1998 ، أمّا الشيخ ياسين فاعتبرته الأغلبية شقيقا للممثل الكوميدي اسماعيل ياسين “.

"أما أحد المتخرجين في الأدب العربي في احدى الجامعات اللبنانية فلم يعرف من هو الأديب العربي الذي فاز بجائزة نوبل واحدى المتخرجات في العلوم السياسية قالت أن "البوليزاريو" منظمة أمريكية"، يقول كاتب آخر في نفس الموضوع.

     و حتى أواصل على مستوى الفكاهة التي تبكي و لا تضحك لابدّ من اعادة سرد ما جاء في تلك المقالة عن احصائية لمعرض كبير للكتاب في احدى الدول العربية ، حيث تبيّن أن “أكثر الكتب مبيعا في هذا المعرض ثلاثة عناوين هي1- رجوع الشيخ الى صباه 2- ثلاث خطوات و تفوزين بقلبه 3- كتاب عن الطبخ” . فيا لهول الكارثة في مجتمعات ما يهمّها هو البطن و ما تحت البطن، بينما وفاض الفكر خال و جراب المشاعر خاو و الحياة كلها تافهة ، سطحية لا تنبئ بما يبشّر بالخير لا على المدى القريب و لا البعيد.

    الأدهى أنّ أحد الباحثين المصريين توصّل في دراسة له الى أن"المعلمين و أصحاب المسؤوليات الثقافية الرفيعة يأتون في طليعة الفئات الأكثر ترددا على الدجالين ، و أن 38 % من مشاهير الفن و السياسة و الرياضة و المثقفين هم من روّاد السحرة و المشعودين". وقد قيل انه حتى بعض المسؤولين رفيعي المستوى في بعض البلدان العربية يترددون على المشعوذين ويحملون تمائمهم و يتبرّكون ببخورهم ليحافظوا على مناصبهم و امتيازاتهم.

     أتساءل فقط ماذا تركوا للسبعين مليون أمّيا الآخرين الذين يعمرون جنبات الوطن العربي؟ ثم أتساءل أيضا كيف يمكننا الخروج من عنق الزجاجة بمثل هذا التفكير وهذا السلوك وبهذا الجهل المتفشي بيننا بهذا الشكل المفجع؟

      فكيف لا تُحترم اسرائيل التي نسبة الأمية فيها صفر و التي من بين جامعاتها من صنّفت في المراتب المحترمة بين جامعات العالم بينما جامعاتنا العربية لا أثر لها في هذا التصنيف الذي يأخذ بمستوى النوعية و الجودة و الكفاءة و ليس بالنسب و المال و الجاه و جمال الشكل و الميوعة الأخلاقية. ثم في الأخير حين تعوزنا الحجة ندعي بأن العالم يتآمر علينا لنبرّر عجزنا و ننسى أننا نحن الذين نتآمر على أنفسنا و تاريخنا و حضارتنا التي سطعت شمسها على الغرب ذات زمن جميل.

    لكنه زمن مضى…زمن انقضى واحسرتاه !

    و ها نحن مذبوحون من الوريد الى الوريد بأيدينا لا بأيدي غيرنا. فغيرنا يقرأ و غيرنا يبحث و غيرنا يخترع وغيرنا يكتب و ينشر الكتب و يحتفي بها و بأصحابها و يعطي كل القيمة للعلم و الأدب، و غيرنا يسارع الزمن ليبني قوته على كل الأصعدة . أمّا نحن الذين يأمرنا الله : "و أعدوا لهم ما استطعتم من قوة و من رباط الخيل ترهبون به عدو الله و عدوكم" لا نعرف غير استهلاك ما يتعب غيرُنا في انتاجه في كل الميادين حتى بتنا مجتمعات استهلاكية ان لم نكن مفرغات عمومية لما تقذفه مصانعهم من بقايا و نفايات ضرّها اكثر من نفعها و نحن لا ندري ما دمنا نذبح فحولنا و نلوي عنق أخيارنا و نهدر طاقاتنا المبدعة و نهجّر علماءنا و نصفّق للجهال و الاغبياء الذين يزيغ نظر بعضنا امام بريق الترف الخارجي الذي يرفلون فيه و الادهى من ذلك انهم يُقدمون كقدوة للأجيال في قنواتنا الإعلامية الممسوخة من الخليج الى المحيط الاّ من رحم ربي.

     أما شيخنا الجليل فلازال يحمل كتبه في قلبه ولازال يدافع عن عشقه لها ولو بالإضراب عن الطعام و الكلام،ولازال يسير بيننا آية من آيات الماضي المضيء. أطال الله في عمره ومتّعه بالصحة و العافية.

    فماذا لو كان الحاضر على خطى الماضي، ماضي النهضة العربية الحديثة أو ماضي الحضارة الاسلامية العتيدة وكله ألق و ضياء.

    لكن ذاك شيء الآن في خبر كان.

و “ليس في الامكان أبدع مما كان” هكذا قالت العرب الآن…هكذا !!!

ملاحظة: هذه المقالة كتبت بتاريخ 29/12/2009 غير ان الامر بات أسوأ من كل التوقعات على خريطة هذا الوطن العربي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *